عكس إقرار وزير المالية اللبناني علي حسن خليل، بأن كل البنود الإصلاحية التي جاءت في موازنة العام 2018 لم تنفذ، وبأن الإنفاق على الرواتب ومتمماتها وعجز مؤسسة الكهرباء وخدمة الدين العام تشكل بمجملها نحو 90 في المائة من إجمالي الإنفاق العام في الموازنة، جانبا من مشهد المأزق المالي للدولة… بينما يظل الدين العام مكمن الخطر الداهم بعد تجاوزه 150 في المائة من الناتج المحلي.
واستمع وزير المالية خلال الأسبوع الماضي إلى معاناة ممثلي القطاع الخاص وتفاقم أوضاع المؤسسات في مجمل القطاعات والاضطرار إلى الإقفال وتسريح العاملين، والمفاعيل السلبية التي نجمت عن الزيادات الضريبية الأخيرة من دون أن تحقق أي تقدم وازن في الإيرادات قياسا بزيادات أعباء الإنفاق، وبالأخص ما يتعلق بعجز الكهرباء الذي وصل إلى ملياري دولار هذا العام، ويرجح أن يزيد بنسبة توازي نسبة الارتفاعات المرتقبة في أسعار النفط. وهذا ما يفرض التعجيل بتأليف الحكومة الجديدة وإقرار تدابير وقائية سريعة، كذلك ضرورة إقرار قانون ضريبي حديث، وقانون جديد للجمارك وقانون للتجارة.
ورأى الوزير في المقابل أن الوضع المالي في البلد تأثر بشكل كبير بالوضع السياسي العام وتأخير تشكيل الحكومة والجمود الاقتصادي، وهناك مواضيع أساسية تساهم في تفاقم العجز أبرزها استمرار التوظيف وارتفاع إنفاق بند الكهرباء، مشددا على أنه لا يمكن القيام بالإصلاح إذا لم يكن هناك التزامات سياسية، ولا يمكن الإكمال بسياسة الإنفاق الثابت والجاري كما هو اليوم، وكذلك الاستمرار في سياسة دعم قطاعات تخسر الدولة.
وتتفق إشارات وزير المال مع تحليل حديث لوكالة التصنيف الدولية “ستاندرد أند بورز”، توقعت فيه ارتفاع متوسّط عجز الموازنة العامة ليصل إلى 11 في المائة من الناتج المحلّي الإجمالي في الفترة الممتدّة بين العامين 2018 و2021. وبذلك تبقى الماليّة العامّة رهينة الحجم الكبير والنموّ المستمرّ لكلٍّ من خدمة الدين (التي توازي نحو 50 في المائة من عائدات الحكومة، وهو أعلى معدّل بين الدول التي تصنّفها الوكالة)، والتحويلات إلى شركة كهرباء لبنان في ظلّ ارتفاع أسعار النفط.
ويؤكد مدير عام “فرست ناشونال بنك” نجيب سمعان، أن “الأسواق تتلقف سريعا أي إشارات ذات انعكاسات مباشرة على الوضعين المالي والاقتصادي بسبب دقة الظروف السائدة والحاجة الملحة إلى مبادرات جريئة من شأنها إعادة إنتاج الثقة بالاقتصاد وبالأداء المالي، وذلك على طريقة تشريع الضرورة الذي تم اعتماده في مجلس النواب بموافقة كل الأطراف السياسية، وضرورة الإعداد المبكر لمشروع قانون الموازنة العامة للعام المقبل ضمن المهلة الدستورية، مع الافتراض الإيجابي بتسريع الاتفاق على تأليف الحكومة الجديدة وتعويض الوقت الضائع عبر استثمار المساندة التشريعية. ويلفت سمعان في مداخلة مع “الشرق الأوسط”، إلى الدور المحوري والحيوي الذي يقوم به مصرف لبنان، وتوسع المعالجات الوقائية لدرء المخاطر عن الوضعين المالي والاقتصادي، إضافة إلى المهام الأساسية ذات البعدين النقدي والمصرفي… لكنه تابع: “ومع ذلك نرصد مبالغات غير مبررة موضوعيا ترمي إلى زيادة وتيرة التوتر في الأسواق، وهذا ما يشمل التركيز على لجوء بعض المستثمرين الخارجيين إلى عرض جزء من محفظتهم من سندات الدين الدولية اللبنانية وانخفاض أسعار بعض الشرائح… علما بأن المستثمرين الأجانب يجاهرون علنا بتوجهاتهم للخروج من أغلب الأسواق الناشئة في حال تواصل رفع الفوائد على السندات الأميركية”.
وشدَّد على أنه رغم كل الضغوطات، فإن قوة الاحتياطات لدى البنك المركزي والمعززة بقدرات مصرفية لقطاع تزيد أصوله عن 235 مليار دولار وتراكم الخبرات في التعامل مع التطورات والمفاجآت، تكفل باستيعاب أي صدمات محتملة أو تداعيات ناشئة من مسببات محلية أو خارجية… فقد سبق التعامل الكفء مع أحداث جسيمة وثقيلة التأثير، وكان العلاج بإعادة تكوين مخزون الثقة. وهذا العلاج مطلوب سريعا عبر تأليف الحكومة والشروع باعتماد تدابير متشددة تساهم في إعادة حفز النمو، وفي مقدمة الإجراءات الملحة النظر في آليات مناسبة لتجنب الضغوط التضخمية وتسهيل مهمة مصرف لبنان في التحكم بالسيولة وتعزيز تدفق الرساميل والتوظيفات الوافدة. فالقليل من التضحيات أفضل بكثير من مواصلة مسار الانحدار الذي يتمدد ليشمل قطاعات طالما كانت محصنة وبمنأى عن التأثيرات المباشرة لانخفاض النمو والصعوبات المالية.
في السياق ذاته، تشدّد وكالة التصنيف الدولية على أهميّة تطبيق إصلاحاتٍ ماليّة وهيكليّة ترافقاً مع الزيادة في الاستثمار العامّ بهدف الحدّ من أيّ ازديادٍ إضافيٍّ في الدين العامّ. والتأكيد بأنّ أيّ رفع للتصنيف السيادي أو للنظرة المستقبليّة للبنان يبقى رهن تحسّن الإطار السياسي (policymaking framework)، إضافةً إلى تحقيق نسب نموٍّ اقتصاديٍّ تفوق المتوقَّع وماليّةٍ عامّةٍ أكثر استدامة.
في المقابل، حذّرت “ستاندرد أند بورز” من أنّ أيّ تفاقمٍ في الوضع السياسي والاقتصادي للبلاد، الذي قد يؤدّي إلى انكماشٍ ملحوظٍ في تدفّق الودائع إلى القطاع المصرفي اللبناني أو إلى تراجعٍ كبيرٍ في احتياطات البلاد بالعملة الأجنبيّة، أو أيّ ضعفٍ في ربط العملة الوطنيّة، قد يدفع إلى تخفيض تصنيفها السيادي للبنان. وكذلك الحال إن لم تستطِع الحكومة اللبنانيّة الولوج إلى أسواق الدين العالميّة، ما قد يحثّ مصرف لبنان على اللجوء إلى هندسات مالية جديدة.
في المقابل، أشارت الوكالة إلى أنّ تشكيل حكومةٍ جديدةٍ في المستقبل وتحسُّن أسعار المحروقات من شأنهما أن يعيدا إنعاش الحركة السياحيّة وتحويلات المغتربين اللبنانيّين، وبخاصّةٍ الذين يعيشون في دول مجلس التعاون الخليجي. كما ذكرت الوكالة أنّ الحكومة اللبنانيّة قد وقّعت أوّل عقودٍ لها مع ائتلاف الشركات المؤلَّف من “توتال” و”إيني” و”نوفاتك” للبدء بعمليّة التنقيب وإنتاج النفط والغاز في بلوكَين اثنين، غير أنّها لم تأخذ بعين الاعتبار في توقّعاتها للنموّ الاقتصادي ولمؤشّرات الماليّة العامّة للبنان نتائج أيّة اكتشافاتٍ محتمَلة. على الجانب الآخر، أخذت الوكالة بعين الاعتبار في توقّعاتها للنموّ زيادةً في الاستثمار العامّ والخاصّ على ضوء مشروع الاستثمار الرأسمالي للحكومة بالتعاون مع البنك الدولي ومؤتمر سيدر.
المصدر : العرب اليوم – إقتصاد